لم يكن في وسع الإنسان ألا يعير المنافسة بينه وبين الآلة اهتماماً، ثم سنة بعد الأخرى بدأ البعض في وضع الرهان على انقراض الإنسان من الأساس بعد ملاحظة اعتناق البشر الهزيمة في تلك المنافسة، انسحب هذا التخاذل البشري المتعمد على ازدهار الآلات وانتعاش صناعاتها ثم تصدرها شتى مناحي الحياة وأولها الحرب بالطبع، وأصبح العالم على وشك الكفر بالعنصر البشري ودوره في حسم المعارك قبل السابع من أكتوبر 2023.
أثار ضابط الـ«سي أي إيه» السابق سكوت ريتر الذي شغل منصب مفتش أسلحة الأمم المتحدة في العراق تلك النقطة في إحدى المقابلات، قائلاً إن السبب الرئيسي لإخفاق الجيش الإسرائيلي بهذا الشكل في غزة هو الجنود أنفسهم.
استخف سكوت بعدد الجنود في الجيش الاحتياطي الإسرائيلي الذي يبلغ نحو 450 ألف عسكري، وصرح بأن الدفع بـ300 ألف عسكري إلى غزة لم يلق إعجاب الإدارة الأمريكية منذ بدء الحرب لعلم البنتاجون بنعومة الجنود الإسرائيليين، الذي اتضحت صحته بتوثيق تدميرهم بيوت الفلسطينيين عن طريق الرقص في مقاطع فيديو على «تيك توك» قائلاً، «الجنود الإسرائيليون يجهلون كيفية تنظيف السلاح وارتداء الدروع، هم مترهلون وليسوا في حالة جسدية ونفسية تسمح لهم بالحرب، كما أن ليس لهم الدافع الذي يتوفر لدى مقاتلي حماس».
استشهد سكوت بما قاله أحد الجنرالات الروس عندما سئل عن الدروس المستخلصة من حصار ماريوبول واستفادة الروس منها في معركة باخموت إذ قال الأخير، «عليك أن تكون مستعداً بطريقة استثنائية عندما يتعلق الأمر بحرب الشوارع، إذ ينبغي أحياناً على الجندي حمل ما يفوق وزنه على 60 كيلوجراماً من المعدات لحمايته أثناء الحركة والركض».
وأضاف سكوت، أن تكبر الساسة الصهاينة وانشغالهم بالتطبيع مع العواصم العربية جعل جيش الاحتلال لا يصدق أنه على وشك خوض حرب طاحنة كتلك، لذا بدا الاعتماد على التكنولوجيا في تأمين الحدود مع غزة مبالغاً فيه، على عكس الفلسطينيين الذين افتقروا إلى الإمكانيات، ولم يكن أمامهم سوى التدريب الطويل والاستعداد لمباغتة العالم بـ«طوفان الأقصى»، ناهيك عن عدم إقامتهم للموت وزناً.
لذلك، فأقل ما يمكننا فعله بعد انتهائنا من مشاهدة فيلم الإبادة الجماعية الجاري حالياً في غزة هو التحرر من الدونية وتحقير الذات المسيطرين على اللاوعي العربي منذ عقود. طبعاً من المفهوم الاعتراف بالتفوق الإسرائيلي على العرب من حيث السلاح والتكنولوجيا، لكن هذه الحرب جاءت لتثبت للمواطن العربي أن الإنسان لا يزال الجزء الأهم في معادلة الصراع، وأن جزءاً لا يستهان به من قوة إسرائيل ينبع من ضعف ثقة الإنسان العربي بنفسه وعدم إيمانه بقدراته وفشله في إعتاق ذاكرته من سجن يونيو 1967.
فلقد قيل لنا دوماً، إن التكنولوجيا أساسية لكسب الحروب، لكننا أثناء سماع تلك المقولة الشهيرة نسينا أن الإنسان هو من اخترع التكنولوجيا، بل إن الطريقة التي تعمل بها الآلات تكون في كثير من الأحيان محاكاة للطريقة التي يعمل بها الجسد الآدمي.
تستوحي الرادارات نظام عملها من الطريقة التي يعمل بها العقل البشري؛ حيث تحاكي نظام التعلم الآلي والشبكات العصبية الذي يُمكن الدماغ البشري من القيام بوظيفتها فهذه الأنظمة تمكن الرادار من تحليل الإشارات والتعرف على الأنماط، مما يُحسن قدرتها على التمييز بين الأشياء مثل المركبات أو الطيور أو الصواريخ.
تتضمن العمليات الشبيهة بالدماغ أخذ بيانات الرادار الخام ومعالجتها واتخاذ قرارات في الوقت الفعلي بناء على الخبرات المكتسبة تماماً كما يعالج الدماغ المدخلات الحسية. الرادارات المعرفية هي نوع من أنظمة الرادار المتقدمة التي يمكنها التعلم من التجارب السابقة والتكيف مع البيئات المتغيرة وتحسين اكتشاف الإشارات، تماماً مثل كيفية تعديل الدماغ لاستجاباته بناء على المعلومات السابقة.
على الرغم من محاولة الرادار التشبه بالإنسان لكن يظل الأخير أذكى من الأول. يُعرف الذكاء بأنه قدرة الإنسان أو الشيء على التكيف والإبداع عند مواجهة تحديات مختلفة؛ فكثيراً ما يُوصم الشخص الحالم بأنه غير عملي لحاجة العمل بوجه عام إلى المهام الروتينية التي تحتاج بدورها إلى التركيز وعدم الانغماس في الخيال أو الأفكار الإبداعية، في المقابل هذه القدرة على التخيل هي أصلاً ما يميز الإنسان عن الرادار.
لقد اعتمدت إسرائيل في تأمين حدودها مع غزة قبل السابع من أكتوبر على الرادارات بشكل كبير، وظهر هذا في مقاطع الفيديو التي بدت فيها عديد من المناطق الحدودية وقد خلت تقريباً من الجنود وعجت بنظم المراقبة الأوتوماتيكية، لكن بينما تتميز الأنظمة الدفاعية التكنولوجية المتقدمة بقدرتها على اكتشاف التهديدات عالية التقنية مثل الصواريخ أو الدرونز كانت المفاجأة التكتيكية والأساليب منخفضة التقنية عاملاً رئيسياً في تجاوز البنية التحتية الأمنية الإسرائيلية.
كان هذا أحد العوامل التي ساعدت على استفزاز الأنا الإسرائيلية. الإذلال أن تمتلك الجيش الأقوى في الشرق الأوسط من حيث التسليح والتكنولوجيا، ومع ذلك يستطيع المقاومون الفلسطينيون اقتحام إسرائيل لأول مرة منذ نشأتها ليس عند طريق طائرات «ميج»، لكن باستخدام الطائرات الشراعية التي كانت صغيرة وبطيئة بما يكفي حتى ينخدع الرادار المنشغل بمراقبة ما هو سريع وضخم.
قبل السابع من أكتوبر وتحديداً في يوليو 2023 قام ممثل الاتحاد الأوروبي في غزة والضفة الغربية سفين كون فون بورجسدورف بزيارة إلى غزة قام خلالها بالتحليق فوق سمائها عن طريق طائرة شراعية للفت الانتباه إلى حصار القطاع قائلاً، «إنها أول رحلة بالمظلة فوق غزة في التاريخ».
أدانت إسرائيل تصرف المبعوث الذي يحمل الجنسية الألمانية، وقال المتحدث باسم الوزارة الخارجية الإسرائيلية، إن الألماني يواصل تمثيل الرواية الفلسطينية وإن المنظمات الإرهابية في غزة تستخدم مبعوث الاتحاد الأوروبي كأداة دعائية لها.
على الرغم من الإدانة لتصرفات السياسي الأوروبي لم تكن إسرائيل تتخيل أن العالم بأسره سيشاهد للمرة الثانية رجالاً يطيرون فوق غزة بطائرات شراعية، لكن هذه المرة لن تكن بدافع اللعب أو الرياضة، لكنها ستكون من أجل الهجوم على إسرائيل.
بالطبع، كان هناك أسئلة خجولة في المرة الأولى عن الكيفية التي تسللت بها مظلات إلى غزة عبر معبر رفح أو معبر إيريز، لكن الغرور الإسرائيلي الشهير قرر أن الاحتمال الأكبر أن يكون الدبلوماسي الأوروبي الوسيم قد قام بإدخالها إلى غزة. فإسرائيل لم تكن تتخيل أن حماس ربما تكون بصدد صناعة مظلات كتلك، حتى إذا توافرت معلومات أو فيديوهات يقوم فيها مقاتلون من حماس باستخدام الطائرات الشراعية.
لم تكن الإدارة الإسرائيلية تتصور أن المسؤولين العسكريين في حماس يتمتعون بهذا القدر من الخيال والمرونة الإبداعية الذي سيمكنهم من اتخاذ قرار الدخول إلى أراضي الـ1948 لأول مرة في تاريخ العرب بهذه الطريقة الاستعراضية. كان المقاتل الفلسطيني يومها أذكى من الرادار الإسرائيلي، ربما لأن الآلة الإسرائيلية وكذلك المقاتل الإسرائيلي يفتقران إلى مفاهيم الشرف أو الكرامة على عكس الفلسطيني الذي يهفو إلى الحرية لذلك كان لديه استعداد للمغامرة بحياته.
على الرغم من اتفاق العسكريين في العصر الحديث على دور الدبابات الرئيسي في الهجوم واقتحام الخطوط الأمامية والاختراق السريع والدفع نحو عمق مواقع العدو، فقد كان للشخصية الإسرائيلية أثر في التصميم «الدفاعي» لدبابة الميركافا؛ إذ صُمم محركها ليكون خلفياً حتى يحول بين النيران القادمة ومقصورة الطاقم؛ فالحرص الذي يُظهره العسكريون الإسرائيليون الذي ينبع من الخوف من الموت بشكل رئيسي أدى فعلياً إلى تغيير في التصميم الوظيفي للدبابات.
في هذا السياق يتجلى دور العنصر البشري وأثره على التكنولوجيا العسكرية بشكل واضح؛ فالتقارير تشير إلى أن الجيش الإسرائيلي الذي يعتمد بشكل متزايد على قوات الاحتياط، يعاني من قلة استعدادهم بسبب نقص التدريب وعدم الالتزام، مما أدى إلى قضايا مثل زيادة الوزن، وهو الأمر الذي ربما يكون ناتجاً عن نمط حياة جنود جيش الإسرائيلي والإفراط في تناولهم الوجبات السريعة. هذه الزيادة في وزن الجنود قوبلت بزيادة مماثلة في وزن الميركافا التي تبلغ أكثر من 65 طناً مما جعلهما، الجنود والدبابات، هدفين يسيرين للكمائن في أزقة غزة الضيقة.
إن هذا التباين بين زيادة وزن الجنود وزيادة وزن الدبابة يعكس أثر الشخصية الإسرائيلية ودورها في إمهان جيشها الذي تفخر به. الدبابات الثقيلة قد توفر الحماية إلا أن ذلك يأتي بتكلفة في الفعالية والقدرة على المناورة.
إن تحليل المعركة الحديثة بين الإنسان والآلة يكشف عن أبعاد جديدة للصراع؛ إذ يتجاوز الأمر مجرد التفوق التكنولوجي إلى أهمية الإنسان في تحديد مصير المعارك. إن التجارب الأخيرة مثل تلك التي حدثت في غزة، تبرز كيف يمكن للخيال والإبداع البشري أن يتفوقا على الأسلحة.
التاريخ يؤكد أن الإنسان بفضل قدراته على التفكير النقدي والابتكار هو العنصر الحاسم في المعادلات العسكرية. ورغم تقدم التكنولوجيا فإن الثقة بالنفس والإرادة القتالية تبقيان المحرك الرئيسي لأي جيش، هذا ما أثبتته التجارب في ميدان غزة حيث استند المقاومون إلى استراتيجيات غير تقليدية أدت إلى خرق الأنظمة المليارية المتقدمة.